أول من صام في التاريخ

أول من صام من البشر

الصيام كعبادة من أقدم الممارسات الدينية التي ارتبطت بالروحانية والتطهر والتقرب إلى الله. وقد عُرف الصيام في العديد من الثقافات والديانات قبل الإسلام، مما يجعله سلوكًا بشريًا عامًا له جذور تاريخية عميقة. ولم يكن الصيام حكرًا على شريعة الإسلام وحدها، بل إن الله سبحانه وتعالى قد بيّن في القرآن الكريم أن الصيام فرض على الأمم السابقة كما في قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون} [البقرة: 183]. يشير هذا النص القرآني صراحة إلى أن عبادة الصيام سبقت الأمة الإسلامية وفرضت على أقوام سابقين، مما يفتح الباب أمام البحث التاريخي والديني في محاولة تحديد “أول من صام من البشر”.

الصيام في العصور الأولى للبشرية

تختلف الروايات الدينية والتاريخية حول تحديد أول من صام من البشر بدقة، إلا أن أغلب المصادر الإسلامية ترى أن نبي الله آدم عليه السلام كان أول من صام، وهذا الرأي مأخوذ من بعض الأحاديث والروايات التي تفيد بأن آدم عليه السلام كان يصوم أيامًا محددة، خاصة أيام “البيّض” وهي الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر من كل شهر قمري.

وقد نُقل عن بعض أهل التفسير أن آدم عليه السلام كان يصوم شكراً لله تعالى بعد أن تاب عليه وغفر له، فجعل الصيام وسيلة للتوبة والتقرب. وبذلك يُعتبر الصيام من أوائل أشكال العبادة التي مارسها الإنسان تعبيرًا عن الخضوع والامتثال لأوامر الله.

صيام الأنبياء قبل الإسلام

يُروى أن العديد من الأنبياء السابقين على النبي محمد صلى الله عليه وسلم قد صاموا، ومن أبرزهم:

• نوح عليه السلام: كان يصوم كثيرًا، وقد ورد في بعض التفاسير أن صيامه كان في أيام البيض أيضًا. وكان الصيام جزءًا من عبادته وزهده في الدنيا.

• إبراهيم عليه السلام: تشير بعض المصادر إلى أنه كان يصوم صيامًا تطوعيًا، وكان يكثر من الأعمال التعبدية.

• موسى عليه السلام: ورد في القرآن الكريم أن الله واعده أربعين ليلة، وهي مدة صيامه في جبل الطور، حيث ذكر الله تعالى: {وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر فتم ميقات ربه أربعين ليلة} [الأعراف: 142]. وقد فسر كثير من العلماء أن هذه الليالي كانت ليالي صيام وعبادة.

• داود عليه السلام: من أكثر الأنبياء الذين عُرفوا بالصيام، حيث ورد في صحيح البخاري حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيه: “أحب الصيام إلى الله صيام داود، كان يصوم يومًا ويفطر يومًا”، وهذا يُعد من أفضل أنواع الصيام من حيث الاعتدال.

الصيام في الديانات السماوية السابقة

للصيام مكانة خاصة في الأديان السماوية، وقد ورد في كتبهم نصوص كثيرة تدل على فرض الصيام أو استحبابه أو ممارسته من قبل أتباعهم، مما يدل على أن الصيام لم يكن ظاهرة خاصة في الإسلام فقط.

الصيام في اليهودية

في الشريعة اليهودية، يُعتبر “يوم الغفران” أو “يوم كيبور” أبرز أيام الصيام، وهو يوم مخصص للتكفير عن الذنوب والتوبة، ويمتنع فيه اليهود عن الطعام والشراب لمدة 25 ساعة. كما أن الشريعة الموسوية فرضت أنواعًا متعددة من الصيام، منها ما هو فردي ومنها ما هو جماعي، وتدل هذه التشريعات على قدم ممارسة الصيام لدى بني إسرائيل.

الصيام في المسيحية

في المسيحية، يُعتبر الصوم ركنًا أساسيًا من أركان التعبد. ومن أبرز أشكال الصيام في المسيحية “صوم الأربعين” الذي يصومه المسيحيون قبل عيد الفصح، وهو مستوحى من صيام المسيح عليه السلام أربعين يومًا في البرية كما ورد في الأناجيل. ويتميز الصيام المسيحي غالبًا بالامتناع عن أنواع معينة من الطعام، لا عن الأكل والشرب بالكلية، مما يعكس تطورًا طقوسيًا في أساليب الصيام.

الصيام في الحضارات القديمة

لم يكن الصيام ظاهرة دينية فقط، بل كانت له تجليات في العديد من الثقافات والحضارات القديمة، حيث كان يُمارس لأغراض طبية أو روحية أو طقسية.

الصيام عند المصريين القدماء

كان الكهنة في مصر القديمة يصومون قبل أداء الطقوس الدينية، وقد اعتقدوا أن الصيام ينقي الجسد ويجعله مهيأً للتواصل مع الآلهة. كما كانوا يصومون أيامًا محددة في السنة كنوع من التقشف الروحي.

الصيام عند الهنود

في الحضارة الهندوسية والبوذية، يُعتبر الصيام وسيلة للتطهر وتصفية النفس، ويأخذ أشكالاً مختلفة، منها الصيام الكامل أو صيام عن نوع معين من الأطعمة. وتُمارس هذه العادة منذ آلاف السنين، وكان يُعتقد أن الصيام يقرّب الإنسان من التنوير الروحي.

الصيام عند الإغريق والرومان

كان بعض الفلاسفة الإغريق مثل سقراط وأفلاطون يمارسون الصيام كوسيلة لتحسين الإدراك العقلي والصفاء الذهني، وكان يُعتقد أن الامتناع عن الطعام يحرر العقل ويزيد من الحكمة.

الصيام في الإسلام

جاء الإسلام ليؤكد مكانة الصيام، وجعل صيام شهر رمضان ركنًا من أركان الدين الخمسة، ويُعتبر صيام رمضان متميزًا من حيث الزمان والمضمون والغاية، فهو عبادة فرضها الله على كل مسلم بالغ عاقل، قال تعالى: {شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان، فمن شهد منكم الشهر فليصمه} [البقرة: 185].

وقد حدّد الإسلام وقت الصيام من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، مع الامتناع عن الطعام والشراب والجماع وسائر المفطرات. ويتميز الصيام الإسلامي بأنه عبادة خفية بين العبد وربه، يعبر فيها المسلم عن تقواه وخضوعه لله.

الجدول الزمني لأبرز الصائمين عبر التاريخ

الدلالة الروحية والاجتماعية للصيام

يُعتبر الصيام من العبادات التي تهدف إلى تحقيق التقوى، وتربية النفس على الصبر والامتناع، كما يساعد على تعزيز الشعور بالآخرين من الفقراء والمحتاجين. وله أيضًا فوائد صحية مؤكدة تتمثل في تنظيم الجهاز الهضمي، وتطهير الجسم من السموم، وتحسين النشاط الذهني. ويكتسب الصيام في الإسلام طابعًا جماعيًا ينعكس في وحدة الأمة الإسلامية في زمان واحد ومناسبة موحدة.

المصادر والمراجع

1. الطبري، تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن، دار الفكر.

2. البخاري، الجامع الصحيح، كتاب الصوم.